الأرملة العراقية التي لَمْ تَتَرَمَّلْ

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
27/12/2015 06:00 AM
GMT



 عندما زرتُ الشاعرة والقاصة والناقدة الفنية مي مظفر في عمّان، تهيأتُ لمواساتها برحيل زوجها الفنان رافع الناصري، وغادرتها وأنا الأرملُ الطروبُ أضحك جذلاً. كان الناصري حاضراً طوال الوقت، ليس بلوحاته التي تطل من جدران مرسمه في أعلى «جبل اللويبده»، ولا في آلة طبع الغرافيك، ولا في رفوف كتبه، ولا في علب الألوان، والفراشي، لكنه حاضر في شغف حديث «مي» عنه، وفي جلستها كأنها متكئة عليه. لحظتها أدركتُ حكمة الصينيين الذين درَّسوا الناصري الفن «الزوجان يقولان لبعضهما بعضاً آلاف الأشياء من دون كلام». و«مي» من دون كلام تعشق «الناصري» ورسومه. فالناصري، من أبرز الفنانين التجريديين العرب، يرسم «صوت الريح، أو هبوب نسمة على ماء النهر، أو رفرفة طير، أو حفيف شجر». وكما يقول كاندنسكي، أحد أشهر الفنانين العالميين التجريديين: «افتحْ عينيك على اللوحة، وتَوَقَفْ عن التفكير، واسألْ نفسك فحسب، ما إذا كان العمل يُمَّكنكَ من الولوج في عالم مجهول لم تره من قبل. وإذا كان الجواب نعم، فماذا تريد أكثر من ذلك؟».

«الفن الحديث في العراق: التواصل والتمايز»، عنوان الكتاب الأخير لمي مظفر عن الفنانين التشكيليين العراقيين، بدءاً مِن عسكريين درسوا الرسم في الجيش العثماني، عبد القادر الرسام، ومحمد صالح زكي، والحاج محمد سليم، وحتى فناني الشتات العراقي الأخير؛ مظهر أحمد، وكريم رسن، وهناء مال الله، وغسان غائب، ونزار يحيى، وعادل عابدين. وكالفن الذي يقول عنه بيكاسو: «طريقة أخرى لكتابة اليوميات»، كتابُ «مي» يومياتها على مدى نحو أربعة عقود من رفقة «الناصري»؛ زوجة، وملهمة، وناقدة، ورفيقة أسفار. يتضمن الكتاب أحاديث، وشهادات، معظمها شخصية عن أبرز فناني العراقي الحديث؛ فائق حسن «البغدادي الذي رأى العراق بعين القلب»، وجواد سليم «الحاضر الغائب»، وكاظم حيدر «التجريب واللعب والموت»، وإسماعيل فتاح الترك «الخصوصية العراقية المتوارثة»، وضياء العزاوي «من ضفاف وادي الرافدين إلى تخوم العالم».

وعناوين فصول الكتاب ومقاطعه شعر: «سعاد العطار أنثوية المشهد الطبيعي»، و«سالم الدباغ بلاغة الصمت»، و«نديم كوفي ذَهَبَ بعيداً بقارب سومري»، و«محمد مهر الدين السير على نهر من جمر». ومن يعرف «مهر الدين» يشعر لسعة جمر العنوان. ومن التقى الفنانة والكاتبة «نهى الراضي»، عرف «وردة بيضاء أو حمراء تزين شعرها الأسود القصير، وابتسامة عذبة لا تفارق شفتيها، وأساور وقلائد فضية، وثياب زاهية الألوان فضفاضة».

«وكنتُ إذا يمَّمتُ أرضاً بعيدةً، سريتُ فكنتُ السرّ والليلُ كاتمُه»، بيت المتنبي تُقدِّمُ به «مي» فصل «اللغز والرمز» عن الفنان العراقي المغترب بهولندا «علي طالب»، وفي أعماله تكتشف «المكان غير الأرض، ومن كان ذا ذاكرة متخمة بالأحداث والرؤى، واحترق بنار تجاربه لا يمكن أن يغادر المكان، بل سيظل المكان ساكناً فيه، وسيظل يمتح من أعماق بئره ما يرطُّبُ به جفاف الغربة وقسوتها فوق تلك الأرض البعيدة الباردة».

و«لا يدوم إلا وجه الكريم»، قول مأثور يُفسر به شاكر حسن آل سعيد لماذا لا يُعنى باستخدام المواد الفنية الجيدة التي تقاوم الزمن، وبه تختتم «مي» فصلين مكرسين لآل سعيد، الظاهرة الفريدة في الفن العراقي والعربي؛ «فهو لم يكن يرى بعينيه فقط، بل بكل جارحة من جوارحه، ينغمر في الموجودات التي تحيط به، أو في النصوص التي يطالعها. وحين يتلقف إشارة من المحيط، أو تأسره جملة في النص يتوقف ثم يبدأ بإمعان النظر بما وجد، فيغوص فيه ويحفر حتى يفقد طريق العودة، ويتيه في مجاهل الشقوق. تنتهي أمامه المسافة ولا ينتهي البحث».

*مستشار في العلوم والتكنولوجيا*

 تاريخ النشر: الخميس 24 ديسمبر2015
من جريدة الإتحاد